التمساح 2

جدى مضطجع على سرير خشبى صغير يسمى “هباب” استمر يحكى لى قصة التمساح المثيرة ، او فى الواقع قصة التمساحة! اتفحص الرجل باهتمام …لجدى شعر اشيب كحقل قطن وايادى معروقة وقوية مثل كماشات…الوجه مستطيل والمحيا مشرق والايماءت بشوشة..جدى كان رجلا  طيب القلب طويل الأناة وبه بعض شموخ وانفة. على بعد امتار من النهر نصبنا خيمتنا وحددنا نقطة المراقبة – قال جدى فى معرض سرده للقصة –  وكيفنا امورنا بقدر المستطاع مع الظروف. الشاويش كان يبدو طوال الوقت مشغول البال ومشتت الذهن وكأن موضوع التمساح السفاح لاياتى ضمن اولوياته! فى الليلة الاولى اعتدل الجو ولكن حاصرتنا جيوش من الذباب الطنان..اهالى القرية جلبوا لنا الطعام ولكن الشاويش لم يبدى رغبة فى تناول شى منه..اتذكر أن تلك الليلة كانت قمراء ذاهية..الكوكب الفضى يوزع ضوءه الصافى والشاعرى فى النواحى..الشاويش كان يتناوم قرب الخيمة وانا اراقب المياه تتلامع فى ضوء القمر واسمع خريرها..اسمع نعيق الضفادع ومن حين لاخر صوت طائر ما يطير فجاءة وبفزع.. ذلك الهدوء لم يستمر طويلا، فقد تناهى الى اذناى صوت التمساح يخرج من الماء..اراه هناك وارقبه يتحرك بهدوء مخيف..لم ارى فى حياتى تمساحاً بذلك الحجم ..وحش ذو اسفاط ولون اسود يلمع تحت الضوء الساطع. هببت واقفا على رجلاى وبحركة غريزية احتضنت الى صدرى السلاح..التمساح احس بحركتى المتوتره فتوقف عن المشى وخيل لى بانه يصغى ليحدد  مكان الحركة، ولكنه عاد ليتابع سيره وكأن شيئا لم يكن ..من حين واخر يهز ذيله الضخم فى حركة نصف دائرية، حركة تشبه منشات السيارات… ليس ببعيد رقد التمساح على الرمل مصدراً اصواتا غريبة جعلت كل شعر جسمى يقف من الهلع..شعرت بخوف عميق ..خوف خرافى لم ينتابنى قط من قبل…هززت الشاويش من كتفه لاوقظه..ابنعوف فتح عينيه بتكاسل وبدأ مزاجه متعكراً…نظر الى التمساح هناك يرقد باالقرب ثم امرنى ان انام فهذه الليلة ليست مناسبة لقتله! اظنه تسبب بشى يتعلق بالقمر واكتماله! لم استطع النوم واغماض عيونى والتمساح على مقربة منى اسمع تحركاته الليلية . لم نطلق النار تلك الليلة ولا الليالى التى تلتها, وظللنا هكذا مدة من الزمن. التمساح لم يغب يوما واحدا عن مواعيده, يخرج من النهر بعد المغيب والشاويش يجد فى اختراع الاسباب وايجاد علل تمنع من رميه بالرصاص …اتذكر فى احدى الليالى والتمساح على مقربة منا كاالعادة والشاويش لايريد اصابته, الححت عليه فى ذلك فغضب الرجل وهدر بصوت غاضب مرعب قائلا انه لايريد قتل التمساح وان الامر امره هو! هكذا ظللنا اكثر من شهر بلياليها على تلك الحالة ..الناموس ينكد حياتنا والشاويش مصرا على رفضه.. بدأ واضحاً بان ابنعوف لسبب ما لايريد قتل التمساح! سبب غامض انا اجهله. لما طال الانتظار ولم تنجز المهة ابتدأ الاهالى فى التضجر والإستياء ، فالناس يريدون ان يعودوا الى حياتهم السابقة..حياة قروية هادئة..روتينية وممللة. أنا ايضا شعرت بالعجز والضيق ويتسرب الى نفسى السأم فالذباب احال حياتى جحيماً ومن ناحية اخرى لم أرى عائلتى منذ أن حللنا بهذه القرية اللعينة وناموسها الطنان المزعج ولياليها المرعبة فى صحبة تمساح ضخم ينام الى جوارنا…كنت أريد ان ينتهى ذلك الامر باى صورة وقد خطرت لى فكرة…فى احدى الليالى وقد خرج التمساح من الماء فى ميعاده تماما وتمدد الى الشاطى قرب الماء…الشاويش كان نائما كالعادة..أخذت البندقية بحذر وصوبت بتدقيق نحو التمساح ، وبين رجليه الامامتين اطلقت النار..صوت الطلقات شق صمت الليل كالنواح…التمساح انقلب الى الماء مصاباً اصابة قاتلة…الشاويش هب من نومه منزعجاً وكأن الرصاصات قد اصابته هو! نظر الى مندهشا ..كان يحملق فى وجهى منذهلاً وكأنه يرانى لاول مرة! ثم غطى وجهه بيديه وصاح بصوت يشبه عواء الذئاب:

– قتلتها!

– نعم قتلت التمساح وانت يجب ان تفرح لذلك – قلت مفتخرا.

– لم تكن تمساح ايها الغبى انها تمساحة وهى ابنة عمتى عليك اللعنة.

– ماذا تقول سيدى – ابتدأ لونى فى الشحوب وفى لحظة ما شعرت بانى اغوص فى اعماق كابوس شرير ومنحرف.

– هذه هى الحقيقة ولكن الذى حدث لاسبيل لرده فهو أمر كان سوف يحدث يوما او أخر, اقترب من القرية واطلق رصاصات اخرى ليحضر الناس ، نحن انتهت مهمتنا هنا.          

 

وسط النهر العظيم فى قارب صغير الشاويش ابنعوف ومساعده قاصدين الضفة الاخرى فمهمتهم كانت قد انتهت….فجاءة تعالت الامواج من كل حدب وصوب.. تلاطمت امواج عاتية وعنيفة ، لم تكن أمواج نهر بل امواج محيط هائج…المركب بدت وكأنها دمية صغيرة فى يد عملاق يتلاعب بها كيفما شاء…ايقنوا ان القارب سوف يغرق فى اى لحظة..ثم ارتفعت موجة عالية كجبل فاخذت القارب الى قمتها فاصبح كعش طير فى اعلى شجرة …الشاويش وقف على رجليه ووصع البندقية جانبا واخذ يتكلم الى الفراغ! يتكلم الى أناس غير مرئيين..مساعده لم يكن فى حالة عقلية تمكنه من فهم شى فهمد الى قعر المركب شبه مغشيا عليه…الشاويش يصيح باعلى صوته كالمجنون:

– اسمعونى جيدا ابنتكم تحولت الى تمساح كاسر ..وحش لايبقى ولايذر..قتلت فتيات بريئات ودمرت كل ماتستطيع تدميره وكل هذا بسبب شاب من اليابسة قد اغرمت به! الشاب لم يكن يعلم حتى بالغرام الاحادى من جانب جنية مهوسة وغريرة..هذا شى لايفهم جيداً على اليابسة! اسمعونى انا لا أستطيع أن ادعكم تقتلون الرجل الذى معى وهو مساعدى..نعم هو قتل إبنتكم ولكنه لم يكن يعلم شيئا…مساعدى كان يقوم بما كلف به ثم إنه الان تحت مسئوليتى، سلامته اسأئل عنها امام الحكومة – هكذا استمر الشاويش يتكلم ويشرح الى جهة غير معلومة وذوات غير مرئية، يتصايح الرجل وكانه على وشك ان يفقد عقله. عندما اقتربت المركب من الضفة الاخرى امام المبنى الحكومى القديم ، انحسرت الامواج بهدوء والقارب هبط الى سطح الماء وكأنه طائرة غريبة. فى اثناء حديث الشاويش الغريب – قال جدى مبتسما – كنت أرقد فى قعر المركب اسمع طرفا من حديث ابنعوف وهو يشير الى بان لا اقلق..لم أكن قلقاً كنت فى حالة أخرى لايمكننى شرحها او وصفها، ومع ذلك لم يحدث شى لنا فقط عندما وطئت قدماى الشاطى شعر رأسى كان قد اكتسب لوناً اخراً..تحول من السواد الى بياض خالص حينها كان عمرى خمسة عشرة عاما حديثة الإكمال.

 

 

 خاتمة :

 

هذه القصة روتها لى والدتى وأنا صغير ومن بعدها جدى كدكى نفسه قرب وفاته فى بداية الثمانينات…. التمساحة تسمى “فاطنة” وتلقب بى “الصفيره” . القصة اصبحت جزءا من تراث المنطقة, وقد جرت احداثها – كما يروى – فى منطقة الحمداب ، المنطقة التى يشيد عليها الان “سد الحماداب” . بعد رجوع الشاويش ومساعده كدكى الى مروى حيث رئاسة المديرية وقد روينا تفصلياً ماحدث اثتاء الرحلة فى المركب، شاعت القصة والتهب خيال الناس وقد صاغوا فى ذلك شعراً يردد الى اليوم. نذكر منه مايلى :

 

الله ياجرك ياعمتى

فاطنة فى الحمداب ماها فى

ضربها أب نيشان عسكرى

شقا ديسا وشقا قلبى

وده القصير ود كدكى

 

والقصيدة طويلة……