الدور الوطني لفن الغناء و الموسيقي3

Posted: السبت,8 جوان, 2013 by neiam in ادبية

من أعلام شواعر العهد التركي في السودان :.-

(في هذا السفر تحدث المؤلف عن عدد من شواعر (جمع شاعرة) السودان عبر الحقب سنفرد لهن حسب ما وردن في كتابه)..

لقد توافرت الجهود الوطنية الغنائية الثورية التي قامت بها المرأة السودانية الشاعرة المغنية عبر مراحل وعهود التاريخ السوداني المختلفة . وعليه سيتم هنا تناول تلك الجهود بدءً بالعهد التركي عبر من واكبن وعاصرن ذلك العهد من هؤلاء الشواعر :

1/ مهيرة بت عبود(*) شغلت المجتمع السوداني بشجاعتها وشعرها الحماسي ، ولمع نجمها بين قومها كفتاة من بيت قبلي سوداني كريم . ولمكانتها بين قومها ولشاعريتها الفذة كانت كلمتها مسموعة ورأيها هو الرأي الصواب(13) وعندما جاء إسماعيل باشا 1(*)غازيا السودان بجيش جرار مجهز بأحدث الأسلحة وقتها ، أخذ فرسان الشايقية2(*) – بادئ ذي بدء- يستعدون للقائه . وقد بادر إسماعيل الشايقية يطالبهم بالتسليم والخضوع . فانعقد إجماع القوم علي الحرب دفاعا عن شرف الأرض وعزة أهلها ، فأكتفوا بالسخرية ردا علي ذلك الغر المأفون . ولكنهم لم يلبثوا أن أدركوا أنهم لا قوة لهم لمقاومة ذلك الجيش الغازي ، وذلك بناءً علي ما تناقلته طلائعهم عن قوة العدو وسلاحه الناري الفتاك الذي يصرع المقاتلين قبل أن يصلوا الي عدوهم ويلتحموا به . ومن ثم تملكتهم الحيرة من أمرهم ، واحتار قائدهم . وعندما أحست مهيرة أن قومها قد زايلهم الوهن والخوف ، وأن عقيدهم قد تقاعس ، وقفت تشد من أزرهم بشعر حماسي ، وتدفعهم للقتال . ولا شك أن شعر مهيرة ذاك كان سببا في تغيير الموقف إذ لم يلبث أن تحول الخوف الي شجاعة نادرة ، إنها تخاطب عقيد الشايقية بهذه الأبيات التي تحمل عتابا يصور الحيرة التي انتابته بـادئ الأمر(14) فها هي تقول :

الليلة العقيد في الحلة ، متمسكن

فـي قلب التراب شوفنُّو متجكِّن

الرأي فارقـو لا يشفي لا يمكن

لا تتعجَّبن ضيم الرجال بِمكن (15).

فهي تصور هنا الحالة النفسية والحيرة التي اكتنفت العقيد وهو جالس علي الأرض يبعثر التراب بيده ، ولكن لا عجب فإن الرجال لا يتحملون الضيم والاحتقار . ثم تلتفت مهيرة الي قومها – عيال شايق – فتخاطبهم خطابا مريرا ، خطابا فيه عتب ، وفيه تقريع ، فتقول لهم :

كــان ترّيتوا يا رفاقاتنــا

أدونا الدرق هاكم رحاطتنا (16)

ولا يخفي ما في هذا البيت من هجاء مرير وتقريع لاذع سافر ، إذ المعني : إذا أصابكم الجبن يا رجال الشايقية ، وخفتم من عدوكم فاقعدوا مع القاعدين ، وهاتوا لنا سيوفكم ورماحكم ودرقكم وخيولكم لنحارب نحن النسوة ، والبسوا أنتم رحاطتنا ، أي نحن الرجال وأنتم النساء ! تري أي رجل يستمع الي مثل ذلك الخطاب دون أن يحمل سيفه ورمحه ويمتطي صهوة جواده ويدخل ميدان القتال إما قاتلًا وإما مقتولًا ؟ (17)(*) وعلي إثر كلمات مهيرة تلك يخرج رجال الشايقية أفواجا علي ظهور الخيل حاملين أسلحتهم البيضاء من سيوف ورماح وغيرها ، لملاقاة جيش إسماعيل باشا . وهنا تهتز الشاعرة الفارسة طرباً عندما رأت فرسان الشايقية يتسابقون الي الموت يتقدمهم عقيدهم فتقول مصورة المشهد :

غنيت بالعديلة لي عيال شايـق

البرشو الضعيفة ويلحقوا الضايق

ومن ورائها المجموعة من الفتيات يرددن هذا المطلع من الشعر…ثم تقول مهيرة :

الليلة استعدوا وركبوا خيل الكـر

وقدِّامن عقيدم بالأغـــر دفَّـر(*)

جنياتنا الأســـــود الليلة تتنتَّر

ويا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر

وتردد المجموعة مطلع البيت الأول : ثم تواصل مهيرة إنشادها فتقول :

حســان1(*) بــي حديدو الليلة اتلثَّم

الدابــي الكمن فـي جحرو شمَّ الدم

مامـون يا الملك ويا نقيــع السَـم

فرساننا البكيلوا العين و يفرجواالهم (18)

وهنا اشتعلت حمية القوم ، وتدافعوا أمواجاً متلاطمة صوب ساحة الفداء والمجد وارتفع في سمائها غبار خيلهم ورجلهم . فدارت بينهم وبين الغزاة رحى معركة طاحنة غير متكافئة ، تذكي أوارها جلجلة النحاس 2(*) وزغاريد النساء وهدير القذائف وصرخات الألم وأزيز الرصاص . فامتلأت ساحة الحرب في (كورتي)3(*) صباح الخامس من نوفمبر 1236هـ/1820م بجثث الشهداء المغاوير ، وتراجع آخرون كرهاً وهم عاجزون عن النيل من عدو لا يرام . ثم وطئت سنابك خيل الغزاة صدور الرجال ، وهي تدخل المدينة تستبيحها لثلاثة أيام سوداء(19) ومع أن نتيجة المعركة لم تكن في صالح الشايقية إلا أنهم وقفوا موقفا بطوليا سجله التاريخ . ولا شك أن هذا خير لمهيرة ألف مرة من أن يقال إن قومها الشايقية هربوا من عدوهم ، فيلحق بهم عار الجبن مدي الحياة . والشاهد أنه لو لا موقف مهيرة ذاك وتحريضها الثوري ، لما خرج عقيد الشايقية من حيرته ، ولما خاض معركة الشرف الوطني فقد كانت هزيمتهم إنتصاراً سجله التاريخ ، وإنه لموقف رائع من مواقف المرأة السودانية(20). هذا وبقليل من التأمل في المعاني التي تناولتها مهيرة فيما سلف يتأكد التوافق بين موسيقي الكلام ومعناه. فالشاعرة في الدوبيت المحمس الأول ” الليلة استعدوا وركبوا خيل الكر …الخ ” تحاول استجماع شجاعتها وشجاعة قومها من فرسان الشايقية ، فتذكر أن أولئك الفرسان قد لبسوا لبوس الحرب ، وحملوا السلاح ، واعتلوا خيولهم المعدة المدربة علي الحرب – خيول الكر والفر – وفي مقدمتهم قائدهم علي فرسه المُعلم . لقد تأهبوا إذن للقتال ولابد أنهم سيبرزون كل شجاعتهم ومهارتهم حين تدور رحى الحرب ، فيتواثبون خفافاً وينقضُّون علي عدوهم كما تنقض الأسود علي الفريسة وإمعاناً منها في محاولة إستجماع شجاعتهم تلتفت إلي الباشا قائد الحملة الغازية ، فتعقد – بطريقة غير مباشرة – مقارنة بين فرسانها وفرسانه ، فتهوُّن من شأن فرسانه حين تراهم كالدجاج (الجداد) يهشُّه الطفل بحركة من يده ، وتطلب منه – بأسلوب حرب الأعصاب – أن يأمرهم بالعودة من حيث أتوا (21). وقد كانت النغمة المتهدجة السائدة في هذا البيت أنسب ما تكون للتعبير عن إنسان يحاول – وهو في موقف حرج دقيق يكتنفه قدر كبير من الذعر – أن يستجمع شتات نفسه وأن يستعيد شجاعته ، حتى إذا ما انتهت مهيرة من استجماع شجاعة الفرسان ، تُري في الدوبيت الثاني قد صارت مطمئنة ، ما دام حسان – عقيد الفرسان – قد تلثم بالحديد ، وما دام قد تشمم رائحة الدم التي تثير فيه الشهوة لسفك الدماء . وعندها يكون كل شئ علي ما يرام . فلقد كان المهم هو أن يتجاوز حسان مرحلة القلق والتردد ، أما الآن ، وقد دخل في حديده فقد أصبح شخصا آخر – صار كالسم النقيع – يفتك بمن يقترب منه لتوه . وكذلك شأن بقية الفرسان ، تقرُّ بهم وبفعلهم العين ، وينفرج عن النفس همها وكربها . ولا غرو بعد هذا – وحين أن يطمئن الإنسان إلي قدراته – أن يخرج كلامه مدمدما . ومن الواضح أن مهيرة كانت في ذلك الشعر تؤدي وظيفة مباشرة ، فهي ليست في موقف فخر أو مدح أو رثاء حيث يرصد الإنسان الأفعال التي أنجزت بل في الموقف الحماسي الصرفي ، حيث يصبح الشعر دافعاً قوياً إلي الفعل ، حتى تسقط الكلمات مباشرة في القلب ، فتتحرك الدماء وتفور. وتكاد تشترك مع مهيرة في هذا الموقف معظم الشواعر السودانيات. (22) كما من جهة أخري يشترك مع مهيرة كذلك كل ما قيل بهذا اللون الشعري الشعبي المرتبط بالوجدان السوداني – بغض النظر عن قائله – ذلك اللون الذي وقف منذ البداية في وجه الغزو التركي مع زغاريد وحداءات مهيرة ، وهي تشجع الرجال علي الصمود علي نحو ما ذكر. .وقد ظل الشعر الشعبي متصلًا بوجدان الجماهير أثناء الحكم التركي يدعو للتمرد وعدم الطاعة للباشا الغازي.

التعليقات
  1. ياسين شمباتى كتب:

    سرد خرااااافى يا حبيب ,,,,

أضف تعليق